علامات استفهام كثيرة وعلامات تعجب اكثر أثارتها السرقة' الثانية' للوحة آنية وزهور الشهيرة بأزهار الخشخاش للفنان الهولندي العالمي فان جوخ من متحف محمد محمود خليل وحرمه..
وإلي أن تظهر حقيقة ما حدث ويتحدد مصير اللوحة فاننا سنظل ننبه الي ضرورة تأمين هذا المتحف وغيره من المتاحف سواء بالأجهزة والكاميرات أو بالكوادر البشرية بدلا من الديكورات الالكترونية والبشرية التي لم تمنع السرقة.
وهذه ليست الحادثة الاولي من نوعها فهناك سرقات للوحات من المتاحف العالمية الصغيرة والكبيرة رغم اجراءات الامن المشددة والمتبعة لأحدث نظم الأمن العالمية ورغم هذا تسرق اللوحات التي تقدر بالملايين من الدولارات.
وحتي ندرك قيمة هذه اللوحة وغيرها من مقتنيات متحف محمد محمود خليل وحرمة فاننا نستعرض في هذه السطور بعض المعلومات عن هذا المتحف الذي أنشأه أشهر مقتني لوحات فناني القرن التاسع عشر حتي يسارع المسئولون عن المتاحف بتأمين هذا الكنز فمحمد محمود خليل' بك' ولد عام1877 في عائلة ثرية تمتلك اراضي زراعية شاسعة ومع انه درس' الزراعه' فقد سافر الي فرنسا لدراسة' القانون' بجامعة' السوربون' وتعرف هناك علي اميلين فيكتور وهي فتاة فرنسيه من الطبقة المتوسطة كانت تدرس الموسيقي, وتزوجها عام1901 وتعرف عن طريق زوجته علي روائع الأعمال الفنية فصارت هوايته اقتناء بعضها رغم ضخامة المبالغ التي تكلفتها هذه الهواية ومع ما يتردد عن صفة' البخل' التي ألصقها به بعض معاصريه لكنه لم يبخل علي مصر بمقتنيات متحفه ومنها لوحة للرسام الفرنسي رينوار_ وهي لوحة' امرأة'- التي دفع فيها أربعمائة جنيه وصفتها زوجته اميلين بأنها مبلغ كبير لا تتصور أن يدفعه في لوحة واحدة, لكنها قالت عن اللوحة: اننا رابحون من هذه الصفقة.. ومن يدري فقد نكون كذلك!.
وبالفعل فهذه اللوحة تتجاوز قيمتها التقديرية الآن40 مليون جنيه, لكنها مع ذلك ليست اغلي مقتنيات المتحف التي سنستعرضها ببعض التفصيل فيما بعد.. والآن نعود الي محمد محمود خليل الذي عاد الي مصر مع زوجته اميلين واشتغل بالسياسة ووصل الي منصب وزير الزراعة وعضو مجلس الشيوخ الذي انتخب رئيسا له لثلاث دورات متتالية, ومع ذلك فإنه لايذكر كرجل سياسة وانما كصاحب اكبر مجموعة فنية نادرة, كما كان أحد مؤسسي' جمعية محبي الفنون الجميلة' عام1923 مع الأمير يوسف كمال, وهو الذي عهد إليه الملك فؤاد عام1928 بإقامة متحف الفن الحديث فكان محمد محمود خليل يسافر بنفسه للخارج لشراء مقتنيات المتحف الجديد_ الذي يوجد الآن بمتحف الجزيرة بأرض الأوبرا_ فكان خبيرا فنيا ذا ذوق كلاسيكي يفضل اقتناء لوحات المدرسة التأثيرية مثل أعمال رينوار ومونيه وسيزلي وبيارو برغم أن الفنان الفرنسي قد ثار قبل تلك الفترة علي مدرسة القرن التاسع عشر, فلم يسمح محمد محمود خليل بأن يقتحم براك وشاجال وماتيس ودالي وبيكاسو مجموعته الفريدة التي ظل يدعمها حتي رحيله عام.1953
وكان من هوايات محمد محمود خليل أيضا الموسيقي والأدب فترك مكتبة موسيقية لا يستهان بها وبلغ عدد الكتب النفيسة التي ضمتها مكتبته_ وهي موجودة في قصره_ أربعمائة كتاب باللغة الفرنسية من بين2794 كتابا نادرا, كما كان خليل ضيفا دائما في منزل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وكان منزل محمد محمود خليل صالونا دائما للوزراء والوجهاء وعلية القوم.
أما قصر محمد محمود خليل وحرمه, أو متحفه فهو يقع علي بعد خطوات من النيل بالجيزة وتبلغ مساحته8 آلاف متر مربع, أنشئ عام1915 والذي أقامه هو روفائيل مناحم سواس أحد أفراد عائلة سواس اليهودية المصرية وبناء علي رغبة خليل وتنفيذا لوصية زوجته الفرنسية اميلين هيكتور لوس فقد تحول القصر في23 يوليو1962 إلي متحف يحمل اسميهما ويحوي مجموعته الفنية الثمينة.
ويتكون القصر من أربعة مستويات وبه سلم رئيسي يصل بين الدورين الأرضي والأول, وسلم فرعي ومصعد يخدم جميع الأدوار وقد تم تحويل بدروم القصر إلي مكتبة بعد تحويله إلي متحف عام1962 وظل كذلك حتي عام1972 حتي تم اخلاؤه ليلحق بمسكن الرئيس الراحل أنور السادات وفي سبتمبر1995 أعيد افتتاح المتحف بعد تطويره الذي تكلف20 مليون جنيه.
وقد أثيرت نقاشات وجدال حول مقتنيات المتحف ومدي أصالتها رغم أن خليل كان حريصا علي توثيق المقتنيات وكان يتولي هذه المهمة اليهودي ريشار موصيري الذي كان يحتفظ بجميع شهادات المصدر التي تحدد كيفية الحصول علي اللوحات من المزادات أو قاعات العرض, لكنه سافر خارج مصر ومعه هذه الوثائق, فاستعانت الدولة_ عندما آل إليها المتحف_ بالناقد والمؤرخ الفني عبد الغني محمد صدقي الجباخنجي الذي أصدر أول دليل لمجوعة محمد محمود خليل وحرمه, وفي عام1994 عرضت وزارة الثقافة هذه المجموعة في متحف الأوروساي بباريس والذي يعد دار الفن الفرنسي وكان عرضها هناك بمثابة شهادة دولية تؤكد أصالة هذه الأعمال فانتهي الجدال بشأنها بعد أن قام الفرنسيون بتأصيل مصادر كل لوحة بعد العودة لجهات البيع المعروفة في النصف الأول من القرن العشرين والتي دونت في سجلات مبيعاتها اسم محمد محمود خليل وحرمه, بل إنهم تعقبوا أصل اللوحات التي اشتراها من مصر وسجلوها ووثقوها.
وقبل أن نتحدث عن لوحةانية وزهور نستعرض بعض المقتنيات ومنها308 لوحات و50 تمثالا, وتعد أغلي لوحة بالمتحف' الحياة والموت' لجوجان والتي تقدر قيمتها بـ80 مليون دولار ويوجد أيضا بالمتحف مجموعة من روائع أعمال كبار الفنانين الفرنسيين أمثال تريون وكوربيه وكورو وبيساوور وجون كيند والمثال الفرنسي باري الذي أبدع في صنع تماثيل الحيوانات من البرونز, كما توجد مجموعة كبيرة من اللوحات صغيرة الحجم' المينياتور' التي رسمها أشهر فناني القرن التاسع عشر, ومجموعة من الأواني الصينية بالغة الجمال والدقة.. ومن أشهر مقتنيات المتحف أعمال لأوجست رودان ومن أهم أعماله لوحة' بورتريه' لفيكتور هوجو, وتمثال للأديب والمفكر الفرنسي بلزاك إضافة إلي تمثالين بعنوان' المفكر' و'أعيان كمالية' كما توجد لوحات عديدة لرونوار من أبرزها' رأس طفل' و'فنجان ويوسفي' و'ذات رابطة العنق من التل الأبيض' و'بستان في كلماتي'. ومن أشهر الفنانين الذين يضم المتحف بعض أعمالهم ديلاكروا ولوتريك.
الفنان الهولندي فان جوخ, كان أسطورة في الفن والإنسانية حتي أنه ترك ثروة ضخمة تقدر بمليارات الدولارات فقد تجاوزت700 لوحة و1000 رسم وهي موزعة حاليا في متاحف العالم من اللوفر بفرنسا والمورتبوليتان بأمريكا والأريميتاج بروسيا ومتاحف هولندا مسقط رأسه.
ولكي نتعرف أكثر علي تلك اللوحة فان فان جوخ رسمها عام1886 وتعود لبداية المرحلة الباريسية الأهم في مشوار حياته والتي انتقل فيها للعيش في العاصمة الفرنسية. ولكن الخشخاش لاتعتبر من أهم وأقيم أعماله من الناحية الفنية, وقد اكتسبت شهرتها من عظمة إنتاج فان جوخ وماتمثله كبداية تجريبية لأعظم مراحله وإبداعاته الفنية التي أبدعها في السنوات العشر الأخيرة من عمره القصير(37 عاما) لكن يكفيها أنها بتوقيع هذا الفنان العظيم.
أما لوحة آنية وزهور التي تحمل الرقم131 في سجلات المتحف المنفذه بألوان الزيت علي توال في مساحة53*64 سم والتي تعرضت للسرقة للمرة الثانية فهي اللوحة الوحيدة للفنان الهولندي الشهير' فان جوخ' في متاحف الشرق الأوسط, وهي اللوحة التي تعهدت الحكومة الفرنسية بدفع50 مليون دولار لمصر في حالة ضياعها أو تلفها, وحصلت علي شهادة بأصالتها من أكبر المراكز الفنية في العالم, وكانت المرة الأولي التي تعرض فيها للسرقة من متحف محمد محمود خليل وحرمه في عام1988 وقد تزامن اختفاء اللوحة مع زيارة ريشار موصيري للقاهرة وهو الذي كان يسجل وثائق منشأ الأعمال الفنية بالمتحف في عهد صاحبه محمد محمود خليل وحرمه ثم ترك مصر ومعه هذه الوثائق, ولكن بعد التحقيق معه غادر مصر التي أبلغت الإنتربول الذي أبلغ أوصاف اللوحة لجميع الموانئ الدولية مما ضيق الخناق علي سارقيها فأعادوها في ظروف غامضة لفشلهم في تهريبها, لكن الكاتب الصحفي والأديب الدكتور يوسف إدريس كتب في' الأهرام' في يونيو1988 أن اللوحة الموجودة بالمتحف نسخة مزيفة وأن اللوحة الأصلية بيعت في إحدي أكبر صالات المزادات بلندن مقابل43 مليون دولار, لكن السرقة الأخيرة تجعلنا نتشكك في مدي صحة هذه المقولات حو ل مدي أصالة اللوحة وتجعلنا نطالب أيضا ببذل كل الجهد ليس فقط لإعادتها وإنما أيضا للتأكد من أصالتها وحمايتها وتأمينها وتطوير نظم الإنذار والأمن, وأيضا تطوير طريقة العرض فلا تعرض في حجرة بعيدة عن الأعين أو بدون حواجز تمنع اقتراب أحد منها حتي مسافة تضمن وصول أيدي العابثين إليها, وهذا ليس فقط بالنسبة للوحة المسروقة وإنما أيضا لكل الأعمال الأخري داخل المتحف وأيضا في غيره من المتاحف التي تحوي داخل جدرانها ومخازنها كنوز الا تقدر بثمن, فهي ثروتنا القومية التي لن نمل من المطالبة بالحفاظ عليها وحمايتها وألا نبخل في سبيل ذلك بالغالي والرخيص.. فهذه الثروة مستهدفة ويجب ألا تبقي نهبا للسارقين أو صيدا سهلا لهم ثم نقول إن أجهزة الإنذار وكاميرات المراقبة معطلة وأن رجال الأمن والعاملين والزوار داخل المتحف رهن التحقيق.. كفانا بكاء علي الكنوز المسلوبة.. فالمال السايب يعلم السرقة.. وتكرار السرقة..